فصل: تفسير الآية رقم (141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا‏}‏ الحبل‏:‏ السبب الذي يُتوصّل به إلى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف‏.‏

واختلفوا في معناه هاهنا، قال ابن عباس‏:‏ معناه تمسكوا بدين الله، وقال ابن مسعود‏:‏ هو الجماعة، وقال‏:‏ عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر الله به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خيرٌ مما تحبون في الفرقة‏.‏ وقال مجاهد وعطاء‏:‏ بعهد الله، وقال قتادة والسدي‏:‏ هو القرآن، ورُوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمةٌ لمن تمسّك به ونجاةٌ لمن تبعه‏"‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ بحبل الله‏:‏ أي بأمر الله وطاعته، ‏{‏وَلا تَفَرَّقُوا‏}‏ كما افترقت اليهود والنصارى، أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تُناصِحوُا من وَلَّى اللهُ أمرَكم، ويسخط لكم‏:‏ قِيْلَ وقال، وإضاعةَ المال وكثرةَ السؤال‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏}‏ قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار‏:‏ كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعتْ بينهما عداوةٌ بسبب قتيل، فتطاولت تلك العداوة والحربُ بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلَدِهِ ونسبه، قدم مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأُمر بالدعوة، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد‏:‏ فلعلّ الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما الذي معك قال‏:‏ مجلّة لقمان يعني حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علي فعرضها، فقال‏:‏ إنَّ هذا لكَلامٌ حسن، معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله عليّ نورًا وهدىً فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يَبْعُدْ منه وقال‏:‏ إن هذا لقول حسن، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بُعاث فإنَّ قومه ليقولون‏:‏ قد قتل وهو مسلم‏.‏

ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم، فقال‏:‏ هل لكم إلى خيرٍ مما جئْتُم له‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا، وأنزل علي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا‏:‏ أي قوم هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال‏:‏ دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك‏.‏

فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزازَ نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا، وهم ستة نفر‏:‏ أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء، ورافع بن مالك العجلاني، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نفرٌ من الخزرج، قال‏:‏ أمن موالي يهود‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏:‏ قال‏:‏ أفلا تجلسون حتى أكلّمكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرضَ عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن‏.‏

قالوا‏:‏ وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودًا كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وهم كانوا أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا‏:‏ إن نبيا الآن مبعوثٌ قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرَم، فلمّا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض‏:‏ يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي تَوعَّدَكُم به يهود، فلا يسبقُنكَّم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا، وقالوا‏:‏ إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك‏.‏

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا المدينة ذَكَرُوا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم‏:‏ أسعد بن زرارة، وعوف، ومعاذ ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقطبة بن عامر، وهؤلاء خزرجيّون وأبو الهيثم بن التيهان، وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا، إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا من ذلك فأُخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفارةٌ له، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم، قال‏:‏ وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب‏.‏

قال‏:‏ فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويُفقهَهم في الدين، وكان مُصعب يُسمى بالمدينة المقرئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطًا، من حوائط بني ظفر،

فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حُضير‏:‏ انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءَنا فازجرهما، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأُسَيْد بن حضير سَيِّدَيْ قومِهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب‏:‏ هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، قال مصعب‏:‏ إن يجلسْ أكلمه قال‏:‏ فوقف عليهما متشتّمًا فقال‏:‏ ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا‏؟‏ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب‏:‏ أوَ تجلس فتسمع‏؟‏ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره، قال‏:‏ أنصفتَ ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لَعَرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، في إشراقه وتسهله، ثم قال‏:‏ ما أحسن هذا الكلام وأجمله ‏!‏ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين‏؟‏ قالا له‏:‏ تغتسلُ وتُطهرُ ثوبَيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما‏:‏ إنَّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال‏:‏ أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد‏:‏ ما فعلت‏؟‏ قال‏:‏ كلمّتُ الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتُهما فقالا فافعل ما أحببت، وقد حُدثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضبًا مبادرًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة ثم قال‏:‏ والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما مَتشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة‏:‏ لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب‏:‏ جاءك والله سيد قومه، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب‏:‏ أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرًا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزلنا عنك ما تكره، قال سعد‏:‏ أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قالأ فعرفنا والله في وجهه الإسلام‏:‏ قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله، ثم قال لهما‏:‏ كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين‏؟‏ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أُسَيْد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا‏:‏ نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال‏:‏ يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبةً قال‏:‏ فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال‏:‏ فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلُ ولا امرأةٌ إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأُحد والخندق‏.‏

قالوا‏:‏ ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية‏.‏

قال كعب بن مالك- وكان قد شهد ذلك- فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه، وقلنا له‏:‏ يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عمّا أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيبا، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال‏:‏ يا معشر الخزرج- وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها- إن محمدًا صلى الله عليه وسلم منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزٍ ومنعةٍ‏.‏

قال‏:‏ فقلنا قد سمعنا ما قلت‏:‏ فتكلمْ يا رسول الله وخذْ لنفسك ولربِّك ما شئت‏.‏

قال‏:‏ فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، قال‏:‏ فأخذ البراء بن مَعْرُور بِيدِهِ ثم قال‏:‏ والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنَا فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر‏.‏

قال‏:‏ فاعترض القول- والبراءَ يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان، فقال‏:‏ يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود، وإنا قاطعوها فهل عسيتَ إن فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحاربُ من حاربتم وأسالم من سالمتم‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم‏"‏ فأخرجوا اثني عشر نقيبًا تسعةً من الخزرج وثلاثةً من الأوس‏.‏

قال عاصم بن عمرو بن قتادة‏:‏ إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري‏:‏ يا معشر الخزرج هل تدرون علاما تبايعون هذا الرجل‏؟‏ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خِزْيٌ في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتُموه إليه من تهلكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة‏.‏

قالوا‏:‏ فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفيَّنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الجنة‏"‏ قال‏:‏ ابسطْ يَدكَ فبسطَ يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن مَعْرُور ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعتُه قط‏:‏ يا أهل الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّباة قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا عدو الله، هذا أزبّ العقبة، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغنّ لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارفضوا إلى رحالكم‏.‏

فقال العباس بن عبادة بن نضلة‏:‏ والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدًا على أهل منًى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم نُؤْمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم‏.‏

قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جِلّةُ قريش حتى جاؤونا في منازلنا، فقالوا‏:‏ يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال‏:‏ فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله‏:‏ ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا، ولم يعلموا، وبعضُنا ينظر إلى بعض، وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش، قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي وقال‏:‏ والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه‏:‏ مه والله أحْفَظْتَ الفتى فاردد إليه نعليه، قال‏:‏ لا أردهما فألٌ- والله- صالح والله لئن صدق الفأل لأسلبنه‏.‏

قال‏:‏ ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون فيها‏"‏ فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار‏.‏

فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرَجَها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ يا معشر الأنصار ‏{‏إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً‏}‏ قبل الإسلام ‏{‏فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏}‏ بالإسلام، ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ‏}‏ أي فصرتم، ‏{‏بِنِعْمَتِهِ‏}‏ برحمته وبدينه الإسلام، ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ في الدِّين والولاية بينكم ‏{‏وَكُنْتُمْ‏}‏ يا معشر الأوس والخزرج ‏{‏عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ‏}‏ أي على طرف حفرة مثل شفا البئر معناه‏:‏ كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم، ‏{‏فَأَنْقَذَكُمْ‏}‏ الله ‏{‏مِنْهَا‏}‏ بالإيمان، ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ كونوا أمةً، ‏{‏من‏}‏ صلة ليست للتبعيض، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ‏"‏ ‏(‏الحج- 30‏)‏ لم يُرِدْ اجتناب بعض الأوثان بل أراد فاجتنبوا الأوثان، واللام في قوله ‏{‏وَلْتَكُنْ‏}‏ لام الأمر، ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ‏}‏ إلى الإسلام، ‏{‏وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُم الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل عبد القاهر، قال أنا عبد الغافر بن محمد، قال أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شيبة، أخبرنا وكيع، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال قال أبو سعيد رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي، قال أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أنا عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدْعُنّه فلا يستجاب لكم‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا علي بن الحسين الدراوردي أخبرنا أبو النعمان، أخبرنا عبد العزيز بن مسلم القِسمليّ، أنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، قال‏:‏ سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول‏:‏ يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏}‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أخبرنا أبي أنا الأعمش حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها، كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها، فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوه فقالوا‏:‏ مالك‏؟‏ فقال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنْجوه ونَجَّوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَيِّنَاتُ‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم‏:‏ المبتدعة من هذه الأمة، وقال أبو أمامة رضي الله عنه هم الحرورية بالشام‏.‏

قال عبد الله بن شداد‏:‏ وقف أبو أمامة وأنا معه على رأس الحرورية بالشام فقال‏:‏ هم كلاب النار، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ثم قرأ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَيِّنَاتُ‏}‏ إلى قوله تعالى ‏{‏أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسن بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سرّه أن سره بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ‏}‏ نصب على الظرف أي‏:‏ في يوم وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول، يريد‏:‏ تبيض وجوه المؤمنين وتسودُّ وجوه الكافرين وقيل‏:‏ تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين‏.‏

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة‏.‏

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ما كانوا يعبدونه، فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ نوله ما تولى ‏"‏ النساء- 115‏)‏ فإذا انتهوا إليه حزنوا فتسودُّ وجوههم من الحزن، وبقي أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم فيأتيهم الله فيسجد له من كان يسجد في الدنيا مطيعًا مؤمنًا ويبقى أهل الكتاب والمنافقون لا يستطيعون السجود، ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضًا والمنافقون وأهل الكتاب إذا نظروا إلى وجوه المؤمنين حزنُوا حزنًا شديدًا فاسودتْ وجوهُهم فيقولون‏:‏ ربنا ما لنا مسودة وجوهنا فوالله ما كنا مشركين‏؟‏ فيقول الله للملائكة‏:‏ ‏"‏ انظروا كيف كذبوا على أنفسهم ‏"‏ الأنعام- 24‏)‏‏.‏

قال أهل المعاني‏:‏ ابيضاض الوجوه‏:‏ إشراقها واستبشَارُها وسُرورها بعلِمها وبثوابِ الله، واسودِادها‏:‏ حزنها وكآبتها وكسوفُها بعملها وبعذاب الله، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهقُ وجوهَهم قترٌ ولا ذلة ‏"‏ يونس- 26‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئة بمثلها وترهقُهم ذلة ‏"‏ يونس- 27‏)‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وجوهٌ يومئذ ناضرةٌ إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسِرَةٌ ‏"‏ القيامة 22- 24‏)‏ وقال ‏"‏ وجوهٌ يومئذ مُسْفِرةٌ ضاحكة مستبشرةٌ ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرةٌ ‏"‏ عبس 37- 40‏)‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّت ْوُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ يقال لهم‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم‏؟‏ ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين‏؟‏ حُكي عن أُبي بن كعب أنه أراد به‏:‏ الإيمان يوم الميثاق، حين قال لهم‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى يقول‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق‏؟‏ وقال الحسن‏:‏ هم المنافقون تكلموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم‏.‏

وعن عكرمة‏:‏ أنهم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث فلما بُعث كفروا به‏.‏

وقال قوم‏:‏ هم من أهل قبلتنا، وقال أبو أمامة‏:‏ هم الخوارج، وقال قتادة‏:‏ هم أهل البدع‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة، عن أسماء بنت أبي بكر قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني فرطكم على الحوض حتى أنظر مَنْ يرِدُ علي منكم وسيُؤخذ ناسٌ دوني فأقول‏:‏ يا رب مني ومن أمتي فيقال لي هل شعرتَ بما عملوا بعدك‏؟‏ والله ما برحُوا يرجعون على أعقابهم‏"‏‏.‏‏.‏

وقال الحارث الأعور‏:‏ سمعت عليًا رضي الله عنه على المنبر يقول‏:‏ إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار ثم قرأ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ‏}‏ الآية ثم نادى‏:‏ هم الذين كفروا بعد الإيمان- وربِّ الكعبة‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا‏"‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 109‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ‏}‏ هؤلاء أهل الطاعة، ‏{‏فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ‏}‏ جنة الله‏.‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين‏}‏‏.‏

‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض، وإلى الله ترجع الأمور‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ قال عكرمة ومقاتل‏:‏ نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة رضي الله عنهم، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لهم‏:‏ نحن أفضل منكم ودينُنَا خير مما تدعونَنا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال جويبر عن الضحاك‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم‏.‏

وروي عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم البغوي، أنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة عن أبي حمزة‏:‏ سمعت زهدم بن مضرب بن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏"‏‏.‏ قال عمران‏:‏ لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثا وقال‏:‏ إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتُمنون ويشهدون ولا يُستشهدون وينذرون ولا يُوفون ويظهر فيهم السِّمَن ‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد عن علي بن الجعد أخبرنا شعبة وأبو معاوية عن الأعمش عن ذكوان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه‏"‏‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ هم جميع المؤمنين من هذه الأمة‏.‏

وقوله ‏{‏كُنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أنتم كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واذكروا إذ كنتم قليلا ‏"‏ الأعراف- 86‏)‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ واذكروا إذ أنتم قليل ‏"‏ الأنفال- 26‏)‏ وقيل‏:‏ معناه كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ وقال قوم‏:‏ قوله ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ ‏"‏من‏"‏ صلة قولهِ ‏"‏ خير أمة‏"‏ أي‏:‏ أنتم خير الناس للناس‏.‏

قال أبو هريرة معناه‏:‏ كنتم خير الناس تجيئون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام‏.‏

قال قتادة‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يُؤْمرْ نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيُدخلونهم في دينهم فهم خير أمة للناس‏.‏

وقيل ‏"‏للناس‏"‏ صلة قوله ‏"‏أخرجت‏"‏ معناه‏:‏ ما أخرج الله للناس أمة خيرًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن حبيش المقري، أنا علي بن زنجويه، أخبرنا سلمة بن شبيب أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد الفيركي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى، أخبرنا أبو الصلت، أخبرنا حماد بن زيد، أخبرنا علي بن زيد عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخْيَرُها وأكرمُها على الله عز وجل‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد، أنا الفضل، بن الفضل أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب، قال عبد الرحمن يعني ابن المبارك أخبرنا حماد بن يحيى الأبَحُّ أنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أولهُ خيْرَ أم آخره‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد المخلدي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي، أخبرنا محمد بن عيسى التنيسي، أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، أخبرنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الجنة حُرّمَت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم كلهم حتى تدخلها أمتي‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، قال‏:‏ أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد، أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي، أخبرنا جدي لأمي محمد بن عبد الله بن مرزوق، أنا عفّان بن مسلم، أنا عبد العزيز بن مسلم، أخبرنا أبو سنان يعني ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أهل الجنة عشرون ومائةُ صف ثمانون من هذه الأمة‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ الكافرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إن رؤوس اليهود عمدُوا إلى مَنْ آمن منهم عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى‏}‏ يعني لا يضروكم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذىً باللسان‏:‏ وعيدًا وطعنًا وقيل‏:‏ كلمة كفر تتأذون بها ‏{‏وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُم الأدْبَارَ‏}‏ منهزمين، ‏{‏ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ‏}‏ بل يكون لكم النصر عليهم‏.‏

‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِم الذِّلَّة أَيْنَ مَا ثُقِفُوا‏}‏ حيث ما وجدوا ‏{‏إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ أينما وجدوا استُضعفُوا وقُتلوا وسبوا فلا يأمنُون ‏"‏إلا بحبل من الله‏"‏‏:‏ عهدٍ من الله تعالى بأن يسلموا، ‏{‏وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ‏}‏ المؤمنين ببذل جزية أو أمان يعني‏:‏ إلا أن يعتصموا بحبل فيأمنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏ رجعوا به، ‏{‏وَضُرِبَت عَلَيْهِم الْمَسْكَنَة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل‏:‏ لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود‏:‏ ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارُنا ولولا ذلك لما تركوا دين آبائهم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

واختلفوا في وجهها فقال قوم‏:‏ فيه اختصار تقديره‏:‏ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمةٌ قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاءً بذكر أحد الفريقين وقال الآخرون‏:‏ تمام الكلام عند قوله ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏ وهو وقف لأنه قد جرى ذكر الفريقين من أهل الكتاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين والفاسقين ثم وصف الفاسقين فقال‏:‏ ‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى‏}‏ ووصف المؤمنين بقوله ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ قوله ‏{‏مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ ابتداء بكلام آخر، لأن ذكر الفريقين قد جرى، ثم قال‏:‏ ليس هذان الفريقان سواء ثم ابتدأ فقال‏:‏ من أهل الكتاب‏.‏

قال ابن مسعود رضي الله عنه معناه‏:‏ لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق، المستقيمة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي مهتدية قائمة على أمر الله لم يُضيِّعُوه ولم يتركوه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ عادلة‏.‏ وقال السدي‏:‏ مطيعة قائمة على كتاب الله وحدوده، وقيل‏:‏ قائمة في الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ الأمة الطريقة‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ أي ذو أمة أي‏:‏ ذو طريقة مستقيمة‏.‏

‏{‏يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يقرؤون كتاب الله وقال مجاهد‏:‏ يتبعون ‏{‏آنَاءَ اللَّيْلِ‏}‏ ساعاته، واحدها‏:‏ إنيٌ مثل نحى وأنحاء، وإنيً وآناء مثل‏:‏ مِعىً وأمعاء وإِني مثل منا وأمناء‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصلون لأن التلاوة لا تكون في السجود‏.‏

واختلفوا في معناها فقال بعضهم‏:‏ هي في قيام الليل، وقال ابن مسعود هي صلاة العتمة يصلونها ولا يصليها من سواهم من أهل الكتاب‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ‏"‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمةٌ قائمة‏"‏ الآية يريد‏:‏ أربعين رجلا من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معْرُور ومحمد بن سلمة ومحمود ابن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا موحدين، يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 117‏]‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك هم الصالحون‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء فيهما إخبار عن الأمة القائمة وقرأ الآخرون بالتاء فيهما لقوله ‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ وأبو عمرو يرى القراءتين جميعا ومعنى الآية‏:‏ وما تفعلوا من خير فلن تعدموا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه، ‏{‏وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏ بالمؤمنين‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا تدفع أموالهم بالفدية ولا أولادهم بالنصرة شيئا من عذاب الله، وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد‏.‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ وإنما جعلهم من أصحابها لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها، كصاحب الرجل لا يفارقه‏.‏

‏{‏مَثَل مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ قيل‏:‏ أراد نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدرٍ وأحد على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل‏:‏ نفقة اليهود على علمائهم، قال مجاهد‏:‏ يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم وقيل‏:‏ أراد إنفاق المرائي الذي لا يبتغي به وجه الله تعالى، ‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏ حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنها السموم الحارة التي تقتل وقيل‏:‏ فيها صر أي‏:‏ صوتٌ، وأكثر المفسرين قالوا‏:‏ فيها برد شديد، ‏{‏أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ‏}‏ زرع قوم، ‏{‏ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى، ‏{‏فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع أصحابه منه بشيء، ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ‏}‏ بذلك، ‏{‏وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفر والمعصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أولياء وأصفياء من غير أهل ملتكم، وبطانة الرجل‏:‏ خاصته تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم‏.‏

ثم بين العلّة في النهي عن مباطنتهم فقال جل ذكره ‏{‏لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا‏}‏ أي‏:‏ لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يُورثكم الشَّر والفساد، والخَبَالُ‏:‏ الشّرُّ والفساد، ونصب ‏"‏خَبَالا‏"‏ على المفعول الثاني لأن يألو يتعدى إلى مفعولين وقيل‏:‏ بنزع الخافض، أي بالخبال كما يقال أوجعته ضربا، ‏{‏وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ‏}‏ أي‏:‏ يودّون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك‏.‏ والعنت‏:‏ المشقة ‏{‏قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء‏}‏ أي‏:‏ البغض، معناه ظهرتْ أمارة العداوة، ‏{‏مِنْ أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ بالشتيمة والوقيعة في المسلمين، وقيل‏:‏ بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين ‏{‏وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ‏}‏ من العداوة والغيظ، ‏{‏أَكْبَرُ‏}‏ أعظم، ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُم الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ‏}‏ ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور، ‏{‏أُولاءِ‏}‏ اسم للمشار إليهم يريد أنتم أيها المؤمنون، ‏{‏تُحِبُّونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من القرابة والرضاع والمصاهرة، ‏{‏وَلا يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ هم لما بينكم من مخالفة الدين، قال مقاتل‏:‏ هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان، ولا يعلمون ما في قلوبهم، ‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم، ‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا‏}‏ وكان بعضهم مع بعض ‏{‏عَضُّوا عَلَيْكُم الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ يعني‏:‏ أطراف الأصابع واحدتها أنملة بضم الميم وفتحها، من الغيظ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال، وإن لم يكن ثم عض، ‏{‏قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ابقوا إلى الممات بغيظكم، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ أي‏:‏ بما في القلوب من خير وشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 121‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ تصبكم أيها المؤمنون بظهوركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وخصب في معايشكم ‏{‏تَسُؤْهُمْ‏}‏ تحزنهم، ‏{‏وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ مساءةٌ بإخفاق سرية لكم أو إصابة عدوٍ منكم، أو اختلاف يكون بينكم أو جدبٍ أو نكبة تصبكم ‏{‏يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا‏}‏ على أذاهم ‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ وتخافوا ربكم ‏{‏لا يَضُرُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا ينقصكم، ‏{‏كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة ‏{‏لا يَضُرُّكُمْ‏}‏ بكسر الضاد خفيفة يقال‏:‏ ضار يضير ضيرا، وهو جزم على جواب الجزاء، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء من ضَرّ يضُرّ ضّرًا مثل ردّ يردُّ رّدًا وفي رفعه وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه أراد الجزم وأصله يضرركم فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الثانية اتباعا، والثاني‏:‏ أن يكون لا بمعنى ليس ويضمر فيه الفاء تقديره‏:‏ وإن تصبروا وتتقوا فليس يضركم كيدهم شيئا، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ عالم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ قال الحسن‏:‏ هو يوم بدر، وقال مقاتل‏:‏ يوم الأحزاب، وقال سائر المفسرين‏:‏ هو يوم أحد لأن ما بعده إلى قريب من آخر السورة في حرب أحد‏.‏

قال مجاهد والكلبي والواقدي‏:‏ غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أُحد فجعل يصفُّ أصحابه للقتال كما يقوم القدح‏.‏

قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما‏:‏ إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول ولم يدعُهُ قط قبلها فاستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار‏:‏ يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منّا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين‏.‏ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضَعُفْنَا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني رأيت في منامي بقرا تذبح، فأوّلتُها خيرًا، ورأيتُ في ذُباب سيفي ثَلْمًا فأولتها هزيمةً ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة‏"‏ وكان يعجبه أن يدخلوا عليه بالمدينة فيقاتلوا في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أُحد‏:‏ اخرج بنا إلى أعدائنا‏.‏ فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حبهم للقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمَتَه، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا، وقالوا‏:‏ بئس ما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه وقالوا‏:‏ اصنع ما رأيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمَته فيضعها حتى يقاتل‏"‏‏.‏

وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، بعدما صلى بأصحابه الجمعة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم، فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، فكان من حرب أُحد ما كان، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ واذكر إذا غدوت من أهلك ‏{‏تُبَوِّئ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ تنزل المؤمنين ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ أي‏:‏ مواطن، ومواضع للقتال، يقال‏:‏ بوأتُ القوم إذا وطنتهم وتبؤوا هم إذا تواطنوا قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ‏"‏ يونس- 93‏)‏ وقال ‏"‏ أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا ‏"‏ يونس- 87‏)‏ وقيل تتخذ معسكرا، ‏{‏وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا‏}‏ أي‏:‏ تَجْبُنا وتضْعُفا وتتخلفّا والطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ودنا جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل‏:‏ في تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشَّوْط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاث مائة وقال‏:‏ علام نقتل أنفسَنا وأولادَنا‏؟‏ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال‏:‏ أنشدكم بالله في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أُبي‏:‏ لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وهمَّتْ بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكرهم الله عظيم نعمتهِ فقال عز وجل ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا‏}‏ ناصرهما وحافظهما‏.‏

‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن يوسف عن ابن عيينة عن عمرو عن جابر قال‏:‏ نزلت هذه الآية فينا ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّه وَلِيُّهُمَا‏}‏ بنو سلمة وبنو حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول‏:‏ ‏{‏وَاللَّه وَلِيُّهُمَا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 124‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُم اللَّه بِبَدْرٍ‏}‏ وبدر موضع بين مكة والمدينة وهو اسم لموضع، وعليه الأكثرون وقيل‏:‏ اسم لبئر هناك، وقيل‏:‏ كانت بدر بئرًا لرجل يقال له بدر، قاله الشعبي وأنكر الآخرون عليه‏.‏

يذكر الله تعالى في هذه الآية منَّتَه عليهم بالنصرة يومَ بدر، ‏{‏وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ جمع‏:‏ ذليل وأراد به قلة العدد فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فنصرهم الله مع قلة عددهم، ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ‏}‏ اختلفوا في هذه الآية فقال قتادة‏:‏ كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألفٍ من الملائكة كما قال‏:‏ ‏"‏ فاستجابَ لكم أني مُمدكم بألفٍ من الملائكة ‏"‏ الأنفال- 9‏)‏ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا ‏{‏بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ فصبروا يوم بدر فاتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد قال الحسن‏:‏ وهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءُ المؤمنين إلى يوم القيامة‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عددًا ومددًا‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما كان يوم أُحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتًى شابٌ يتنبَّل له كلما فني النبل أتاه به فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل يُعرف‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، أنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشَدِّ القتالِ ما رأيتهما قبل ولا بعد‏.‏

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال‏:‏ ‏"‏رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأبتهما قبل ولا بعد‏"‏ يعني‏:‏ جبريل وميكائيل‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر‏:‏ أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ‏}‏ إلى قوله ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ فبلغ كرزًا الهزيمةُ فرجع فلم يأتهم ولم يمدّهم فلم يمدّهم الله أيضا بالخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه‏:‏ أن يمدَّهم أيضًا في حروبهم كلهِّا فلم يصبروا إلا في يوم الأحزاب، فأمدّهم الله حتى حاصروا قُريظة والنضير، قال عبد الله بن أبي أوفى‏:‏ كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يُفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسْلٍ فهو يغسل رأسه إذْ جاءه جبريل عليه السلام، فقال‏:‏ وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها‏؟‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح لنا فتحا يسيرا‏.‏

وقال الضحاك وعكرمة‏:‏ كان هذا يوم أُحد وَعَدهم الله المدَد إن صبرُوا فلم يصبروا فلم يمُدوا به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ‏}‏ والإمداد‏:‏ إعانة الجيش بالجيش، وقيل‏:‏ ما كان على جهة القوة والإعانة يقال فيه‏:‏ أمده إمدَادًا وما كان على جهة الزيادة يقال‏:‏ مدّه مّدًا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والبحرُ يمده ‏"‏ لقمان- 27‏)‏ وقيل‏:‏ المدّ في الشر والإمدادُ في الخير، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويمُدُّهم في طغيانهم يعمهون ‏"‏ البقرة- 15‏)‏ ‏"‏ ونَمُدُّ له من العذاب مّدًا ‏"‏ مريم- 79‏)‏ وقال في الخير‏:‏ ‏{‏أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏ وأمددناكم بأموالٍ وبنين ‏"‏ الإسراء- 26‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ‏}‏ قرأ ابن عامر بتشديد الزاي على التكثير لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ‏"‏ سورة الأنعام- 111‏)‏ وقرأ الآخرون بالتخفيف دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لولا أنزل علينا الملائكة ‏"‏ الفرقان- 21‏)‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ وأنزل جنودا لم تروها ‏"‏ التوبة- 26‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلَى‏}‏ نمدُّكم ‏{‏إِنْ تَصْبِرُوا‏}‏ لعدوكم ‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ أي‏:‏ مخالفة نبيكم ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ‏}‏ يعني المشركين ‏{‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والحسن وأكثر المفسرين‏:‏ من وجههم هذا، وقال مجاهد والضحاك‏:‏ من غضبهم هذا، لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر، ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ‏}‏ لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف بل أراد معهم وقوله ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ أي‏:‏ معلمين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر الواو فأراد أنهم سَوّموا خيلهم ومن فتحها أراد به أنفسهم، والتسويم‏:‏ الإعلام من السَّومة وهي العلامة‏.‏

واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير‏:‏ كانت الملائكة على خيل بُلق عليهم عمائم صُفر، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم‏:‏ كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، وقال هشام بن عروة والكلبي‏:‏ عمائم صفر مرخاة على أكتافهم وقال الضحاك وقتادة‏:‏ كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر‏:‏ ‏"‏تَسوَّمُوا فإن الملائكة قد تسوّمتْ بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 129‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يقول‏:‏ لقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفًا أي‏:‏ لكي يهلك طائفة من الذين كفروا وقال السدي‏:‏ معناه ليهدم ركنًا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون وأُسر سبعون ومن حَمَلَ الآية على حرب أُحد فقد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكانت النصرة للمسلمين حتى خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب عليهم، ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يهزمهم وقال يمان‏:‏ يصرعهم لوجوههم، قال السدي‏:‏ يلعنهم، وقال أبو عبيدة‏:‏ يهلكهم، وقيل‏:‏ يحزنهم، والمكبوت‏:‏ الحزين وقيل أصله‏:‏ يكبدهم أي‏:‏ يصيب الحزن والغيظ أكبادَهم، والتاء والدال يتعاقبان كما يقال سَبَتَ رأسه وسَبَده‏:‏ إذا حلقه، وقيل‏:‏ يكبتهم بالخيبة، ‏{‏فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ‏}‏ ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ الآية، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قوم‏:‏ نزلت في أهل بئر معونة، وهم سبعون رجلا من القراء، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد ليُعلِّموا الناس القرآن والعلمَ أميرهم المنذر بن عمرو، فقتلهم عامر بن الطفيل فَوَجَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْدًا شديدًا، وقنت شهرًا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللّعن والسّنين فنزلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، حدثني سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر‏:‏ ‏"‏اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول‏:‏ سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد‏"‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ نزلت يوم أُحد، أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيتُه يوم أُحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلتُ الدم عنه ويقول‏:‏ ‏"‏كيف يُفلحُ قومٌ شجوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏‏.‏

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ ‏"‏اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية‏"‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فأسلموا وحسن إسلامهم‏.‏

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أُحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا‏:‏ لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أَحدٌ من العرب بأَحَد فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه فيهم بأن كثيرًا منهم يسلمون‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ أي‏:‏ ليس إليك، فاللام بمعنى ‏"‏إلى‏"‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ربنَّا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ‏"‏ سورة آل عمران- 193‏)‏ أي‏:‏ إلى الإيمان‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه حتى يتوب عليهم أو‏:‏ إلى أن يتوب عليهم، وقيل‏:‏ هو نسق على قوله ‏"‏ليقطعَ طَرفًا‏"‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ‏}‏ اعتراض بين نظم الكلام ونظم الآية ليقطعَ طرفًا من الذين كفروا أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون، ليس لك من الأمر شيء، بل الأمرُ أمري في ذلك كله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِر لِمَنْ يَشَاء وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء وَاللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 131‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏ أراد به ما كانوا يفعلونه عند حلول أجل الدَّين من زيادة المال وتأخير الطلب، ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ في أمر الرِّبا فلا تأكلوه، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 133‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ لكي ترحموا‏.‏

‏{‏وَسَارِعُوا‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام سارعوا بلا واو، ‏{‏إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي بادروا وسابقوا إلى الأعمال التي تُوجب المغفرة‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إلى الإسلام، وروي عنه‏:‏ إلى التوبة، وبه قال عكرمة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ إلى أداء الفرائض، وقال أبو العالية‏:‏ إلى الهجرة، وقال الضحاك‏:‏ إلى الجهاد، وقال مقاتل‏:‏ إلى الأعمال الصالحة‏.‏ رُوي عن أنس بن مالك أنها التكبيرة الأولى‏.‏

‏{‏وَجَنَّةٍ‏}‏ أي وإلى جنة ‏{‏عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْضُ‏}‏ أي‏:‏ عرضها كعرض السموات والأرض، كما قال في سورة الحديد‏:‏ ‏"‏ وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ‏"‏ سورة الحديد- 21‏)‏ أي‏:‏ سَعَتُها، وإنما ذكر العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول‏:‏ هذه صفة عَرْضِها فكيف طُولها‏؟‏ قال الزهري‏:‏ إنما وصف عرضها فأما طولُها فلا يعلمه إلا الله، وهذا على التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير، معناه‏:‏ كعرض السموات السبع والأرضين السبع عند ظنكم كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خالدين فيها ما دامت السمواتُ والأرضُ ‏"‏ سورة هود- 107‏)‏ يعني‏:‏ عند ظنكم وإلا فهما زائلتان، وروي عن طارق بن شهاب أن ناسًا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه رضي الله عنهم وقالوا‏:‏ أرأيتم قوله ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأرْضُ‏}‏ فأين النار‏؟‏ فقال عمر‏:‏ أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنه لمثلها في التوراة ومعناه أنه حيث يشاء الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وفي السماء رزقُكم وما تُوعَدُون ‏"‏ سورة الذاريات- 22‏)‏ وأراد بالذي وعَدَنا‏:‏ الجنة فإذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون عرضُها السموات والأرض‏؟‏ وقيل‏:‏ إن باب الجنة في السماء وعرضها السموات والأرض كما أخبر، وسُئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة‏:‏ أفي السماء أم في الأرض‏؟‏ فقال‏:‏ وأي أرض وسماء تسع الجنة‏؟‏ قيل‏:‏ فأين هي‏؟‏ قال‏:‏ فوق السموات السبع تحت العرش‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ أي‏:‏ في اليُسر والعُسر فأول ما ذكر من أخلاقهم الموجبة للجنة ذكر السَّخَاوةَ وقد جاء في الحديث‏.‏ أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن إسماعيل العنبري، أخبرنا أبو عبد الله بن حازم البغوي بمكة، أخبرنا أبو صالح بن أيوب الهاشمي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا سعيد بن محمد، عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏السَّخيُّ قريبٌ من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيدٌ من النار، والبخيلُ بعيد من الله بعيدٌ من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، والجاهل السخي أحب إلى الله من عابد بخيل‏"‏‏.‏

‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ أي‏:‏ الجارعين الغيظَ عند امتلاء نفوسهم منه، والكظم‏:‏ حبس الشيء عند امتلائه وكظم الغيظ أن يمتلئ غيظًا فيردّه في جوفه ولا يُظهره‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ‏"‏ سورة غافر- 18‏)‏ أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الإسفرايني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد زكريا العلاني، أخبرنا رَوح بن عبد المؤمن، أخبرنا أبو عبد الرحمن المُقْري أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال‏:‏ حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذَه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ الحور شاء ‏"‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ‏}‏ قال الكلبي عن المملوكين سوء الأدب، وقال زيد بن أسلم ومقاتل‏:‏ عمّن ظلمهم وأساء إليهم‏.‏ ‏{‏وَاللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ الآية قال ابن مسعود‏:‏ قال المؤمنون‏:‏ يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدَعْ أنفك وأذنك، افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال عطاء‏:‏ نزلت في نبهان التمار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرًا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبَّلها فقالت له‏:‏ اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاريَّ على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبّل يدها، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت‏:‏ لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبًا مستغفرًا، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا‏.‏ فقال الأنصاري‏:‏ هلكتُ‏:‏ وذكر له القصة فقال أبو بكر‏:‏ ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً‏}‏ يعني‏:‏ قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى له فيه، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ قال جابر‏:‏ الفاحشة الزنا‏.‏

‏{‏أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ما دون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل أو ظلموا أنفسهم بالمعصية‏.‏

وقيل‏:‏ فعلوا فاحشة الكبائر، أو ظلموا أنفسهم بالصغائر‏.‏

وقيل‏:‏ فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا‏.‏

‏{‏ذَكَرُوا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ ذكروا وعيد الله، وأن الله سائلهم، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ذكروا الله باللسان عند الذنوب‏.‏

‏{‏فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِر الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ وهل يغفر الذنوب إلا الله‏.‏

‏{‏وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا‏}‏ أي‏:‏ لم يُقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا، وأصل الإصرار‏:‏ الثبات على الشيء وقال الحسن‏:‏ إتيان العبد ذنبًا عمدًا إصرارٌ حتى يتوب‏.‏

وقال السدي‏:‏ الإصرار‏:‏ السكوت وترك الاستغفار‏.‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرَّياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا يحيى بن يحيى، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن عثمان بن واقد العمري، عن أبي نصيرة، قال‏:‏ لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له‏:‏ أسمعتَ من أبي بكر شيئا‏؟‏ قال‏:‏ نعم سمعتُه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أصرَّ مَنِ استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة‏"‏‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي‏:‏ وهم يعلمون أنها معصية، وقيل‏:‏ وهم يعلمون أن الإصرار ضار، وقال الضحاك‏:‏ وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب، وقال الحسين بن الفضل وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب، وقيل‏:‏ وهم يعلمون أنّ الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثُرت وقيل‏:‏ وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ‏}‏ ثوابُ المطيعين‏.‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الريّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا عفان بن مسلم، أنا أبو عُوانة، أنا عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة الأسدي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال‏:‏ سمعت عليًا رضي الله عنه يقول‏:‏ إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول‏:‏ ‏"‏ما مِنْ عبدٍ مؤمنٍ يُذنبُ ذنبًا فيُحسِنُ الطهورَ ثم يقومُ فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفرَ الله له‏"‏ ورواه أبو عيسى عن قتيبة عن أبي عُوانة وزاد‏:‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا هشام بن عبد الملك، أخبرنا همام، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي طلحة، قال‏:‏ كان قاض بالمدينة يقال له عبد الرحمن بن أبي عَمْرة فسمعتُه يقول‏:‏ سمعتُ أبا هريرة يقول‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال‏:‏ أيْ ربِّ اذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي قال‏:‏ فقال ربُّه عز وجل‏:‏ علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنب ويأخُذُ به، فغفر له فمكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر فقال‏:‏ ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي فقال ربه عز وجل‏:‏ علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنبَ ويأخُذُ بهِ قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أخبرنا النعمان السدوسي، أخبرنا المهدي بن ميمون، أخبرنا غيلان بن جرير، عن شهر بن حَوْشَب عن معدي كرب عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال‏:‏ ‏"‏قال يا ابن آدم إنك ما دعوتَني ورَجُوتَني غفرت لك على ما كان فيك، ابنَ آدم إنّك إن تلقاني بِقُرَابِ الأرض خَطَايا لقيتُكَ بِقُرَابها مغفرة بعد أن لا تُشرِكَ بي شيئا، ابنَ آدم إنّكَ إن تُذنبْ حتى تبلغَ ذنوبك عنانَ السماء ثم تستغفرني أغفرُ لك‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين الحسني الشرفي، أنا أبو الأزهر، أحمد بن الأزهر أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثني أبي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ من علم أني ذُو قُدْرَةٍ على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يُشركْ بي شيئا‏"‏ قال ثابت البناني‏:‏ بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً‏}‏ إلى آخرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 138‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ‏}‏ قال عطاء‏:‏ شرائع، وقال الكلبي‏:‏ مضتْ لكل أمة سُنّة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم، وقال مجاهد‏:‏ قد خلت من قبلكم سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذّب قبلكم، وقيل‏:‏ سُنَنٌ أي‏:‏ أمم والسُّنّةُ‏:‏ الأمّةُ قال الشاعر‏:‏

ما عاين الناسُ من فضل كفضلكم *** ولا رأوا مثلكم في سالف السّنَن

وقيل معناه‏:‏ أهل السنن، والسنة هي‏:‏ الطريقة المتبعة في الخير والشر، يقال‏:‏ سَنَّ فلانُ سُنَّةً حسنةً وسُنَّةً سيئةً إذا عمل عملا اقْتُدِي به مِنْ خيرٍ وشر‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ قد مضتْ وسلفتْ مني سننٌ فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة، بإمهالي واستدراجي إيَّاهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلتُه لإهلاكهم، وإدالة أنبيائي عليهم‏.‏ ‏{‏فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ آخر أمر المكذبين، وهذا في حرب أحد، يقول الله عز وجل‏:‏ فأنا أُمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه‏.‏

‏{‏هَذَا‏}‏ أي‏:‏ هذا القرآن، ‏{‏بَيَانٌ لِلنَّاسِ‏}‏ عامة، ‏{‏وَهُدًى‏}‏ من الضلالة، ‏{‏وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ خاصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 140‏]‏

‏{‏وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا‏}‏ هذا حثُّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أُحد يقول الله تعالى‏:‏ ولا تهنوا أي‏:‏ لا تَضْعُفُوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم‏:‏ حمزة بن عبد المطلب ومصعبُ بن عُمير، وقتل من الأنصار سبعون رجلا‏.‏

‏{‏وَلا تَحْزَنُوا‏}‏ فإنكم ‏{‏أَنْتُم الأعْلَوْنَ‏}‏ أي تكون لكم العاقبةُ بالنصرة والظفر، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إذ كنتم مؤمنين‏:‏ أي‏:‏ لأنكم مؤمنون، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعب فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوةَ لنا إلا بك وثابَ نفرٌ من المسلمين رماةٌ فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُم الأعْلَوْنَ‏}‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت هذه الآية بعد يوم أُحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تَهِنُوا في ابتغاء القوم ‏"‏ النساء- 104‏)‏‏.‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ‏"‏ قرح ‏"‏ بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد وقال الفراء القرح بالفتح‏:‏ الجراحة وبالضم‏:‏ ألم الجراحة هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ‏}‏ يوم أُحد، ‏{‏فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ‏}‏ يوم بدر، ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ فيومٌ لهم ويومٌ عليهم أُديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسَرُوا سبعين وأُديل المشركون من المسلمين يوم أُحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسًا وسبعين‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمرو بن خالد، أنا زهير، أخبرنا أبو إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب قال‏:‏ جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرّجّالة يوم أُحد وكانوا خمسين رجلا عبدَ الله بن جُبير، فقال‏:‏ ‏"‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسلَ إليكم وإن رأيتُمونا هزمنا القومَ وأوطأناهم فلا تبرحُوا حتى أُرسل إليكم فهزموهم قال‏:‏ فأنا والله رأيتُ النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جُبير‏:‏ الغنيمة أيْ قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون‏؟‏ فقال عبد الله بن جُبير‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا‏:‏ والله لنأتينّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صُرفتْ وجُوهُهم فأقبلوا منهزمين‏.‏ فذاك إذ يدعوهم الرسول في أُخراهُم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان‏:‏ أفي القوم محمد ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال‏:‏ أمّا هؤلاء فقد قُتلوا فما مَلَك عمرُ نفسه فقال‏:‏ كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءُك قال‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال إنكم ستجدون في القوم مُثلةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز‏:‏ اعل هُبَلُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا تُجيبوه‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ قولوا الله أعلى وأجلُّ‏"‏ قال‏:‏ إن لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تَجيبوه‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم‏"‏

وُروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم وإن الأيام دَول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار‏"‏‏.‏

قال الزجاج‏:‏ الدولة تكون للمسلمين على الكفار، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ‏}‏ وكانت يوم أَحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ يعني‏:‏ إنما كانت هذه المُداولة ليعلم أي أي‏:‏ ليرى الله الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، ‏{‏وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ يُكرم أقوامًا بالشهادة، ‏{‏وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلِيُمَحِّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ يُطهرهم من الذنوب، ‏{‏وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ يُفنيهم ويُهلكهم معناه‏:‏ أنهم إن قتلوكم فهو تطهيرٌ لكم، وإن قتلتموهم فهو محقهم واستئصالُهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ أحسبتم‏؟‏ ‏{‏أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ ولم يعلم الله ‏{‏الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ‏}‏ وذلك أن قوما من المسلمين تمنَّوا يومًا كيوم بدر ليقاتُلوا ويستشهِدُوا فأراهم الله يوم أُحد وقوله ‏{‏تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ‏}‏ أي‏:‏ سببَ الموت وهو الجهاد من قبل أن تلقوه، ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ أسبابه‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما معنى قوله ‏{‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ‏}‏ قيل‏:‏ ذكره تأكيدًا وقيل‏:‏ الرؤية قد تكون بمعنى العلم، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏}‏ ليعلم أن المراد بالرؤية النظر، وقيل‏:‏ وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشّعب من أُحد في سبعمائة رجل، وجعل عبد الله بن جُبير وهو أخو خَوات بن جبير على الرّجالة وكانوا خمسين رجلا وقال‏:‏ أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنّا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن، فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنها لَمشيةٌ يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع‏"‏ ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم‏.‏

وروينا عن البراء بن عازب قال‏:‏ فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خَلاخِلهنَّ وأسوقهن رافعاتٍ ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير‏:‏ الغنيمة والله لنأتينّ الناس فلَنُصيبنّ من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم‏.‏

وقال الزبير بن العوام‏:‏ فرأيت هندًا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل، باديات خدامهنّ ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب‏.‏

فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورَباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحه فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أوجَبَ طلحةُ‏"‏ ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتْها وحشيًا وبقرتْ عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تُسيغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذبَّ مُصعب بن عمير- وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال‏:‏ إني قتلت محمدًا وصاح صارخٌ ألا إنّ محمدًا قد قتل، ويقال‏:‏ إن ذلك الصارخ كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس‏:‏ ‏"‏إلي عباد الله ‏{‏إليَّ عبادَ الله‏}‏ فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فَحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقتْ سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال له‏:‏ إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميًا شديدا النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول‏:‏ انثرها لأبي طلحة، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت كأحسن ما كانت‏.‏

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول‏:‏ لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ دعوه حتى إذا دَنَا منه وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ عندي رمكة أعلفها كل يوم فَرْقَ ذُرة أقتُلُكَ عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشهً خدشة فتدهدًأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور، ويقول‏:‏ قتلني محمد، فأخذه أصحابه وقالوا‏:‏ ليس عليك بأس قال‏:‏ بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومُضر لقتلتهم، أليس قال لي‏:‏ أقتلك‏؟‏ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سَرِف‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن علي، أنا أبو عاصم، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ اشتدّ غضبُ الله على من قتله نبي واشتدّ غضبُ الله على من دَمىَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالوا‏:‏ وفشا في الناس أن محمدًا قد قُتل فقال بعض المسلمين‏:‏ ليتَ لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق‏:‏ إن كان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك‏:‏ يا قوم إن كان قتل محمد فإن ربَّ محمد لم يُقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُوتُوا على ما مات عليه ثم قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل‏.‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال عرفتُ عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي‏:‏ يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكتْ فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفِرار فقالوا‏:‏ يا نبي الله فديناك بآبائنا وأُمهاتنا، أتانا الخبرُ بأنك قد قُتلت فرُعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد، لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال، وأكرم الله نبيَّه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جلّ جلاله محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت‏:‏

ألم تَرَ أن الله أرسل عبدَه *** ببرهانه والله أعلى وأمجدُ

وشقَّ له من اسمه ليجلَّه *** فذو العرشِ محمود وهذا محمد

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ رجعتم إلى دينكم الأول، ‏{‏وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ فيرتّد عن دينه، ‏{‏فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا‏}‏ بارتداده وإنّما يضرُّ نفسه، ‏{‏وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ اللام في ‏{‏لِنَفْسٍ‏}‏ منقولة تقديره‏:‏ وما كانت نفس لتموت، ‏{‏إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ بقضاء الله وقدره، وقيل‏:‏ بعلمه وقيل‏:‏ بأمره، ‏{‏كِتَابًا مُؤَجَّلا‏}‏ أي‏:‏ كتَبَ لكل نفس أجلا لا يقدر أحدٌ على تغييره وتأخيره، ونصب الكتاب على المصدر، أي‏:‏ كتب كتابًا، ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ من يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله، يريد نؤته منها ما نشاء بما قدرناه له كما قال‏:‏ ‏"‏ من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد ‏"‏ سورة الإسراء- 18‏)‏ نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحد طلبا للغنيمة، ‏{‏وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ أي أراد بعمله الآخرة، قيل‏:‏ أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا‏.‏ ‏{‏وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ المؤمنين المطيعين‏.‏

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداوودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن المقرئ، أنا أبي، أنا الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقرَ بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن علي بن توبة الزرّاد، أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس بن محمد الجرجاني، وأبو أحمد محمد بن أحمد المعلم الهروي، قالا أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي، أخبرنا حيان بن موسى وعبد الله بن أسماء ابن أخي جويرية بن أسماء، قال أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانتْ هجرتُه إلى الله ورسولهِ فهجرتهُ إلى الله ورسوله ومن كانتْ هجرتهُ إلى دنيا يُصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرتهُ إلى ما هاجر إليه‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ قرأ ابن كثير ‏"‏ وكائن ‏"‏ بالمد والهمزة على وزن فاعل وتليين الهمزة أبو جعفر، وقرأ الآخرون ‏"‏ وكأيّن ‏"‏ بالهمز والتشديد على وزن كعين، ومعناه‏:‏ وكم، وهي كاف التشبيه ضُمت إلى أي الاستفهامية، ولم يقع للتنوين صورةٌ في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ويقف بعض القراء على ‏"‏ وكأيّ ‏"‏ بلا نون والأكثرون على الوقوف بالنون قوله ‏{‏قَاتَل‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وأهل البصرة بضم القاف وقرأ الآخرون ‏{‏قَاتَل‏}‏ فمن قرأ ‏{‏قَاتَل‏}‏ فلقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُوا‏}‏ ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا لقول سعيد بن جبير‏:‏ ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال ولأنّ ‏{‏قَاتَل‏}‏ أعم‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم، فكان ‏{‏قَاتَل‏}‏ أعم‏.‏

ومن قرأ ‏"‏قتل‏"‏‏)‏ فله ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏

أن يكون القتل راجعا إلى النبي وحده، فيكون تمام الكلام عند قوله ‏"‏ قتل ‏"‏ ويكون في الآية إضمار معناه‏:‏ ومعه ربيون كثير، كما يقال‏:‏ قتل فلان معه جيشٌ كثير أي‏:‏ ومعه‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد‏:‏ بعض من معه، تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله ‏{‏فَمَا وَهَنُوا‏}‏ راجعًا إلى الباقين‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ أن يكون القتل للربيين لا غير‏.‏

وقوله ‏{‏رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ جموع كثيرة، وقال ابن مسعود‏:‏ الربيون الألوف، وقال الكلبي الرَّبِّية الواحدة‏:‏ عشرة آلاف، وقال الضحاك‏:‏ الربية الواحدة‏:‏ ألف، وقال الحسن‏:‏ فقهاء علماء وقيل‏:‏ هم الأتباع والربانيون الولاة، والربيون الرعية، وقيل‏:‏ منسوب إلى الرب وهم الذين يعبدون الرب، ‏{‏فَمَا وَهَنُوا‏}‏ أي‏:‏ فما جَبُنُوا، ‏{‏لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا‏}‏ عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح وقَتْل الأصحاب‏.‏ ‏{‏وَمَا اسْتَكَانُوا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وقال السدي‏:‏ وما ذلوأ قال عطاء وما تضرعوا وقال أبو العالية‏:‏ وما جبنوا ولكنهم صبروا على أمر رَبهّم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم، ‏{‏وَاللَّه يُحِبّ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏147- 148‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ‏}‏ نصب على خبر كان والاسم في أن قالوا، ومعناه‏:‏ وما كان قولهم عند قتل نبيهم، ‏{‏إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ أي‏:‏ الصغائر، ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏}‏ أي‏:‏ الكبائر، ‏{‏وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ كي لا تزول، ‏{‏وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏ يقول فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد‏.‏

‏{‏فَآتَاهُم اللَّه ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏ النصرة والغنيمة، ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ‏}‏ الأجر والجنة، ‏{‏وَاللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى وقال علي رضي الله عنه يعني‏:‏ المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم‏.‏

‏{‏يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ يُرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله، ‏{‏فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏ مغبونين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّه مَوْلاكُمْ‏}‏ ناصُركم وحافظكُم على دينكم، ‏{‏وَهُوَ خَيْر النَّاصِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 152‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏}‏ وذلك أن أبا سفيان والمشركين لمّا ارتحلوا يوم أُحد متوجهين نحو مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا‏:‏ بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاسْتَأْصِلُوهم فلمّا عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرُّعب حتى رجعوا عما همُّوا به‏.‏

سنلقي أي‏:‏ سنقذف في قلوب الذين كفروا الرعب الخوف وقرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ‏{‏الرُّعُبَ‏}‏ بضم العين وقرأ الآخرون بسكونها، ‏{‏بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا‏}‏ حُجةً وبُرهانًا، ‏{‏وَمَأْوَاهُم النَّار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ‏}‏ مقام الكافرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللَّه وَعْدَهُ‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أُحد وقد أصابهم ما أصابهم، قال ناس من أصحابه‏:‏ من أين أصابنا هذا‏؟‏ وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُم اللَّه وَعْدَهُ‏}‏ بالنصر والظفر وذلك أن النصر والظفر كان للمسلمين في الابتداء، ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أُحدًا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين، وهو جبل عن يساره وأقام عليه الرماة وأمّر عليهم عبد الله بن جُبير وقال لهم‏:‏ احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غَنِمْنَا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نُقتل فلا تَنْصرونا، وأقبل المشركون فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيوف، حتى ولّوا هاربين فذلك قوله تعالى ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏ أي تقتلونهم قتلا ذريعا بقضاء الله‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ الحسُّ‏:‏ هو الاستئصال بالقتل‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن جبنتُم وقيل‏:‏ معناه فلما فشلتم، ‏{‏وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ‏}‏ والواو زائدة في ‏{‏وَتَنَازَعْتُم‏}‏ يعني‏:‏ حتى إذا فشلتم تنازعتم، وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره‏:‏ حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلْتُم ومعنى التنازع الاختلاف‏.‏

وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون فقال بعضهم‏:‏ انهزم القوم فما مقامنا‏؟‏ وأقبلوا على الغنيمة وقال بعضهم‏:‏ لا تجاوزوا أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عبد الله بن جُبير في نفر يسير دون العشرة‏.‏

فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه، وأقبلوا على المسلمين وحالت الريح فصارت دَبُوَرًا بعد ما كانت صبَا وانتقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا ما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس أن محمدًا قد قُتل وكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَصَيْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتمُ أمره، ‏{‏مِنْ بَعْدِمَا أَرَاكُمْ‏}‏ الله ‏{‏مَا تُحِبُّونَ‏}‏ يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة، ‏{‏مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا‏}‏ يعني‏:‏ الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب، ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الآخِرَةَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبير حتى قُتلوا قال عبد الله بن مسعود‏:‏ ما شعرت أن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أُحد ونزلت هذه الآية ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ردّكم عنهم بالهزيمة، ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُم‏}‏ ليمتحنكم وقيل‏:‏ لُينزل البلاء عليكم ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، ‏{‏وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏